فصل: فَصْلٌ:ما يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ:ما يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ أَمَّا الطِّيبُ فَنَقُولُ: لَا يَتَطَيَّبُ الْمُحْرِمُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ» وَالطِّيبُ يُنَافِي الشَّعَثَ.
وَرُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مَقْطَعَانِ مُضَمَّخَانِ بِالْخَلُوقِ فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ فِي حَجَّتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا سَرَى عَنْهُ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا فَقَالَ: اغْسِلْ هَذَا الطِّيبَ عَنْك، وَاصْنَعْ فِي حَجَّتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي عُمْرَتِك» وَرَوَيْنَا «أَنَّ مُحْرِمًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» جَعْلُ كَوْنِهِ مُحْرِمًا عِلَّةُ حُرْمَةِ تَخْمِيرِ الرَّأْسِ، وَالتَّطَيُّبِ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا: كَالرَّأْسِ، وَالْفَخِذِ، وَالسَّاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَوَّمُ مَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، حَتَّى لَوْ طَيَّبَ رُبْعَ عُضْوٍ، فَعَلَيْهِ مِنْ الصَّدَقَةِ قَدْرُ قِيمَةِ رُبْعِ شَاةٍ، وَإِنْ طَيَّبَ نِصْفَ عُضْوٍ تَصَدَّقَ بِقَدْرِ قِيمَةِ نِصْفِ شَاةٍ هَكَذَا وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُنْتَقَى فِي مَوْضِعٍ إذَا طَيَّبَ مِثْلَ الشَّارِبِ أَوْ بِقَدْرِهِ مِنْ اللِّحْيَةِ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَفِي مَوْضِعٍ إذَا طَيَّبَ مِقْدَارَ رُبْعِ الرَّأْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، أَعْطَى الرُّبْعَ حُكْمَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي قَلِيلِ الطِّيبِ وَكَثِيرِهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْبَعْضَ بِالْكُلِّ وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ تَطْيِيبَ عُضْوٍ كَامِلٍ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ، فَكَانَ جِنَايَةً كَامِلَةً فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً، وَتَطْيِيبَ مَا دُونِهِ ارْتِفَاقٌ قَاصِرٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ السَّبَبِ فَإِنْ طَيَّبَ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةً مِنْ كُلِّ عُضْوٍ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَإِذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِمَا قُلْنَا.
وَإِنْ طَيَّبَ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ حَظَرَهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوَّمَةٍ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ طَيَّبَ كُلَّ عُضْوٍ فِي مَجْلِسٍ عَلَى حِدَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَذْبَحْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجِمَاعِ بِأَنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ، أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ يَكْفِي دَمٌ وَاحِدٌ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ فَإِنْ كَانَ الدُّهْنُ مُطَيِّبًا كَدُهْنِ: الْبَنَفْسَجِ، وَالْوَرْدِ، وَالزِّئْبَقِ، وَالْبَانِ، وَالْحَرَى، وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الَّتِي فِيهَا الطِّيبُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا.
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَنَفْسَجَ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ دُهْنٌ مُطَيِّبٌ فَأَشْبَهَ الْبَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَيِّبٍ بِأَنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ بِشَيْرَجٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي شَعْرِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَدَنِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلدَّمِ لَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الدَّمَ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُطَيِّبِ مِنْ الْأَدْهَانِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْغِذَاءِ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ وَالشَّحْمَ وَالسَّمْنَ إلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ لَا لِكَوْنِهِ طِيبًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ لَمَّا نُعِيَ إلَيْهَا وَفَاةُ أَخِيهَا قَعَدَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَدْعَتْ بِزِنَةِ زَيْتٍ وَقَالَتْ: مَا لِي إلَى الطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ لَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» سَمَّتْ الزَّيْتَ طِيبًا؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُطَيَّبُ بِإِلْقَاءِ الطَّيِّبِ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ الطَّيِّبِ كَانَ كَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّعَثَ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْإِحْرَامِ وَشِعَارُهُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَصَارَ جَارِحًا إحْرَامَهُ بِإِزَالَةِ عَلَمِهِ، فَتَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ فَيَجِبُ الدَّمُ.
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ لَا يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الدَّمَ كَانَ لَا يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَالَةَ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ، ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ وَكَفَّرَ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
وَلَوْ دَاوَى بِالزَّيْتِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلَ الطِّيبِ لَكِنَّهُ مَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ الطِّيبِ، فَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالطِّيبِ لَا لِلتَّطَيُّبِ أَنَّهُ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ فِي نَفْسِهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ اسْتِعْمَالُهُ لِلتَّطَيُّبِ أَوْ لِغَيْرِهِ؛ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ دَهَنَ شُقَاقَ رِجْلَيْهِ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: الصَّحِيحُ شُقُوقُ رِجْلَيْهِ وَإِنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ هَكَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِنَا الِاقْتِدَاءُ بِأَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ وَمَعَانِي كَلَامِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَإِنْ ادَّهَنَ بِشَحْمٍ أَوْ سَمْنٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَا أَصْلَ لِلطِّيبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُطَيَّبُ بِإِلْقَاءِ الطِّيبِ فِيهِ، وَلَا يَصِيرُ طِيبًا بِوَجْهٍ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَدَنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ هُوَ طِيبٌ مَحْضٌ مُعَدٌّ لِلتَّطَيُّبِ بِهِ كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، وَالْعَنْبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اُسْتُعْمِلَ حَتَّى قَالُوا: لَوْ دَاوَى عَيْنَهُ بِطِيبٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ عُضْوٌ كَامِلٌ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الطِّيبَ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَنَوْعٌ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ وَلَا فِيهِ مَعْنَى الطِّيبِ، وَلَا يَصِيرُ طِيبًا بِوَجْهٍ كَالشَّحْمِ فَسَوَاءٌ أُكِلَ أَوْ اُدُّهِنَ بِهِ أَوْ جُعِلَ فِي شُقَاقِ الرِّجْلِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ.
وَنَوْعٌ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ، يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الطِّيبِ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِدَامِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَدْهَانِ فِي الْبَدَنِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الطِّيبِ، وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي مَأْكُولٍ أَوْ شُقَاقِ رِجْلٍ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الطِّيبِ كَالشَّحْمِ.
، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ فِي طَعَامٍ طُبِخَ وَتَغَيَّرَ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي أَكْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ يُوجَدُ رِيحُهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الطِّيبَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِي الطَّعَامِ بِالطَّبْخِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُطْبَخْ يُكْرَهُ إذَا كَانَ رِيحُهُ يُوجَدُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ غَالِبٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ الطِّيبُ مَغْمُورًا مُسْتَهْلَكًا فِيهِ، وَإِنْ أَكَلَ عَيْنَ الطِّيبِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالطَّعَامِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ إذَا كَانَ كَثِيرًا.
وَقَالُوا فِي الْمِلْحِ يُجْعَلُ فِيهِ الزَّعْفَرَانُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الزَّعْفَرَانُ غَالِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ يَصِيرُ تَبَعًا لَهُ، فَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الطِّيبِ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْحُ غَالِبًا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الطِّيبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الخشكنابخ الْأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَيَقُولُ: لَا بَأْسَ بِالْخَبِيصِ الْأَصْفَرِ لِلْمُحْرِمِ.
فَإِنْ تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الطِّيبِ لِمَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ، أَوْ اكْتَحَلَ بِطِيبٍ لِعِلَّةٍ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ إذَا فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ لِضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ فَعَلَيْهِ إحْدَى الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ.
، وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ الطِّيبَ وَالرَّيْحَانَ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَوْ شَمَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الطِّيبَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ، وَالرَّيْحَانُ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ طِيبًا، وَإِنَّا نَقُولُ: نَعَمْ إنَّهُ طِيبٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِقْ بِبَدَنِهِ وَلَا بِثِيَابِهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا شَمَّ رَائِحَتَهُ فَقَطْ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، كَمَا لَوْ جَلَسَ عِنْدَ الْعَطَّارِينَ فَشَمَّ رَائِحَةَ الْعِطْرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِارْتِفَاقِ.
وَكَذَا كُلُّ نَبَاتٍ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَكُلُّ ثَمَرَةٍ لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِالرَّائِحَةِ وَلَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِقْ بِبَدَنِهِ وَثِيَابِهِ شَيْءٌ مِنْهُ.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِرَفْعِ الْعَطَّارِينَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَذَلِكَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ.
فَإِنْ شَمَّ الْمُحْرِمُ رَائِحَةَ طِيبٍ تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ حَصَلَ فِي وَقْتٍ مُبَاحٍ، فَبَقِيَ شَمُّ نَفْسِ الرَّائِحَةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ مَرَّ بِالْعَطَّارِينَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا لَوْ دَخَلَ بَيْتًا قَدْ أَجْمَرَ وَطَالَ مُكْثُهُ بِالْبَيْتِ فَعَلِقَ فِي ثَوْبِهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِعَيْنٍ، وَبِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا، فَإِنْ اسْتَجْمَرَ بِثَوْبٍ فَعَلِقَ بِثَوْبِهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ هاهنا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ وَقَدْ اسْتَعْمَلَهَا فِي بَدَنِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَطَيَّبَ.
وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ قَدْ طَيَّبَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ إذَا غَلَبَ الْكُحْلَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَاوِي أَوْ التَّطَيُّبِ.
فَإِنْ مَسَّ طِيبًا فَلَزِقَ بِيَدِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ؛ لِأَنَّهُ طَيَّبَ بِهِ يَدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّطَيُّبَ، لِأَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَالُوا فِيمَنْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَأَصَابَ يَدَهُ مِنْ طِيبِهِ: إنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّطَيُّبَ، وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَصْدِ.
فَإِنْ دَاوَى جُرْحًا أَوْ تَطَيَّبَ لِعِلَّةٍ، ثُمَّ حَدَثَ جُرْحٌ آخَرُ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الْأَوَّلَ بَاقٍ، فَكَانَ جِهَةُ الِاسْتِعْمَالِ وَاحِدَةً فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْتَجِمَ الْمُحْرِمُ، وَيَفْتَصِدَ، وَيَبُطَّ الْقُرْحَةَ، وَيَعْصِبَ عَلَيْهِ الْخِرْقَةَ، وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ، وَيَنْزِعَ الضِّرْسَ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ، وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلَ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقُرْحَةِ، وَالْفَصْدُ وَبَطُّ الْقُرْحَةِ» وَالْجُرْحِ فِي مَعْنَى الْحِجَامَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا شَقُّ الْجِلْدَةِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدَاوِي، وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّدَاوِي.
وَكَذَا جَبْرُ الْكَسْرِ مِنْ بَابِ الْعِلَاجِ، وَالْمُحْرِمُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَكَذَا قَلْعُ الضِّرْسِ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ إزَالَةِ الضَّرَرِ فَيُشْبِهُ قَطْعَ الْيَدِ مِنْ الْأَكَلَةِ، وَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ كَذَا هَذَا.
وَأَمَّا الِاغْتِسَالُ فَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: مَا نَفْعَلُ بِأَوْسَاخِنَا».
فَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لَهُمَا أَنَّ الْخِطْمِيَّ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَإِنَّمَا يُزِيلُ الْوَسَخَ فَأَشْبَهَ الْأُشْنَانَ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الدَّمُ، وَتَجِبُ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ لَا لِأَنَّهُ طِيبٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخِطْمِيَّ طِيبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الطِّيبِ؛ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّعَثَ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَأَشْبَهَ الْحَلْقَ.
فَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْحِنَّاءِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ» وَلِأَنَّ الطِّيبَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَلِلْحِنَّاءِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ طِيبًا.
وَإِنْ خَضَّبَتْ الْمُحْرِمَةُ يَدَيْهَا بِالْحِنَّاءِ فَعَلَيْهَا دَمٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَعَلَيْهَا صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَطْيِيبِ عُضْوٍ كَامِلٍ، وَالْقُسْطُ طِيبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَلِهَذَا يُتَبَخَّرُ بِهِ وَيُلْتَذُّ بِرَائِحَتِهِ.
، وَالْوَسْمَةُ لَيْسَ بِطِيبٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بَلْ كَرِيهَةٌ، وَإِنَّمَا تُغَيِّرُ الشَّعْرَ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ، بَلْ مِنْ بَابِ الزِّينَةِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَقْتُلَ دَوَابَّ الرَّأْسِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ التَّفَثَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا لَا لِأَجْلِ الْخِضَابِ بَلْ لِأَجْلِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ.
وَالْكُحْلُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِكُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ طِيبٌ وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِهِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَلَا يَكُونُ طِيبًا.
وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالتَّطَيُّبِ: الذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ، وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا كَمَا فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الطِّيبِ سَوَاءٌ فِي الْحَظْرِ وَوُجُوبِ الْجَزَاءِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاظِرِ وَالْمُوجِبِ لِلْجَزَاءِ.
وَكَذَا الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ إلَّا أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ مِثْلَيْ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَأَدْخَلَ نَقْصًا فِي إحْرَامَيْنِ فَيُؤَاخَذُ بِجَزَاءَيْنِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ التَّطَيُّبُ مَا لَمْ يَحْلِقَا أَوْ يُقَصِّرَا، لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ، فَكَانَ الْحَاظِرُ بَاقِيًا فَيَبْقَى الْحَظْرُ.
وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ لِمَا قُلْنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: مَا يَجْرِي مَجْرَى الطِّيبِ:

وَأَمَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الطِّيبِ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ: فَحَلْقُ الشَّعْرِ، وَقَلْمُ الظُّفْرِ.
أَمَّا الْحَلْقُ فَنَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ» «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الْحَاجُّ؟ فَقَالَ: الشَّعِثُ التَّفِثُ» وَحَلْقُ الرَّأْسِ يُزِيلُ الشَّعَثَ وَالتَّفَثَ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ، كَالنَّبَاتِ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ وَهُوَ الشَّجَرُ وَالْخَلَى.
وَكَذَا لَا يُطْلِي رَأْسَهُ بِنُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ؛ وَكَذَا لَا يُزِيلُ شَعْرَةً مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلَا يُطْلِيهَا بِالنُّورَةِ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَإِنْ حَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يُجْزِيهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ حَلَقَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ فَخُيِّرَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا، وَإِنْ حَلَقَ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ حَلَقَ دُونَ الرُّبُعِ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ: إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَحْلِقْ أَكْثَرَ رَأْسِهِ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْحَاكِمِ: إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: إذَا حَلَقَ أَكْثَرَهُ يَجِبُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَقَ شَعْرَهُ يَجِبُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ يَجِبُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ وَعَلَى هَذَا إذَا حَلَقَ لِحْيَتَهُ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا، احْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّ هَذَا الْمَحْدُودِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الثَّلَاثَ جَمْعٌ صَحِيحٌ فَيَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلِهَذَا قَامَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ؛ وَلِأَنَّ الشَّعْرَ نَبَاتٌ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَالنَّبَاتِ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ مِنْ الشَّجَرِ وَالْخَلَى.
وَأَمَّا الْكَلَامُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْكَثِيرِ يُوجِبُ الدَّمَ، وَالْقَلِيلِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا دُونَ الرُّبُعِ قَلِيلًا، وَالرُّبُعَ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرًا، وَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ جَعَلَا مَا دُونَ النِّصْفِ قَلِيلًا، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ كَثِيرًا، وَالْوَجْهُ لَهُمَا: أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمُقَابِلِهِ، فَإِنْ كَانَ مُقَابِلُهُ قَلِيلًا فَهُوَ كَثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الرُّبُعُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ فَكَانَ هُوَ قَلِيلًا، وَالْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الرُّبُعَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ عَادَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَجْيَالِ مِنْ الْعَرَبِ، وَالتُّرْكِ، وَالْكُرْدِ الِاقْتِصَارَ عَلَى حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ، وَلِذَا يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْت فُلَانًا يَكُونُ صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَ إلَّا أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ، وَلِهَذَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الْمَسْحِ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِأَنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ لِلتَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ وَيَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ، فَكَانَ حَلْقُ رُبُعِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقًا كَامِلًا فَكَانَتْ جِنَايَةً كَامِلَةً، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً.
وَكَذَا حَلْقُ رُبُعِ اللِّحْيَةِ لِأَهْلِ بَعْضِ الْبِلَادِ مُعْتَادٌ كَالْعِرَاقِ وَنَحْوِهَا، فَكَانَ حَلْقُ الرُّبُعِ مِنْهَا كَحَلْقِ الْكُلِّ، وَلَا حُجَّةَ لِمَالِكٍ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا نَهْيًا عَنْ حَلْقِ الْكُلِّ، وَذَا لَا يَنْفِي النَّهْيَ عَنْ حَلْقِ الْبَعْضِ، فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ، فَلَا يَصِحُّ.
وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ آخِذَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى حَالِقًا فِي الْعُرْفِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ الْحَلْقِ، كَمَا لَا يُسَمَّى مَاسِحُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مَاسِحًا فِي الْعُرْفِ، حَتَّى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ نَصُّ الْمَسْحِ، عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ مُتَعَلِّقٌ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، وَحَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ نَبَاتٌ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ، وَذَا يَقِفُ عَلَى ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا: إنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ يُعْرَفُ بِالْمُقَابَلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرُّبُعَ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَيُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ.
وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ، أَوْ لَمَسَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَانْتَثَرَ مِنْهُ شَعْرَةٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ بِإِزَالَةِ التَّفَثِ، هَذَا إذَا حَلَقَ رَأْسَ نَفْسِهِ.
فَأَمَّا إذَا حَلَقَ رَأْسَ غَيْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَالِقِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَالْإِنْسَانُ لَا يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ غَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ نَفْسِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، لِعَدَمِ الِارْتِفَاقِ فِي حَقِّهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْلُوقُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا لِمَا قُلْنَا، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ حَلَالًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ، لِحُصُولِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ لَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَلْقُ بِأَمْرِ الْمَحْلُوقِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ مُكْرَهًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا لَكِنَّهُ سَكَتَ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَسْلُبُ الْحَظْرَ، وَكَمَالُ الِارْتِفَاقِ مَوْجُودٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْجَزَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْحَالِقِ، وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْحَالِقَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي عُهْدَةِ الضَّمَانِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَلَنَا أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ حَصَلَ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، إذْ لَوْ رَجَعَ لَسَلِمَ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَالْمَغْرُورِ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ وَغَرِمَ الْعُقْرَ، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ الْمَحْلُوقِ مَا ذَكَرنَا.
وَإِنْ حَلَقَ شَارِبَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِبَ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْبُتُ تَبَعًا لِلِّحْيَةِ وَيُؤْخَذُ تَبَعًا لِلِّحْيَةِ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ قَلِيلٌ، فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: مُحْرِمٌ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَهِيَ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ تَكُونُ مَقَادِيرُ أَدْنَى مَا يَجِبُ فِي اللِّحْيَةِ مِنْ الدَّمِ؟ وَهُوَ الرُّبُعُ، فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ بِقَدْرِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِثْلَ رُبُعِ اللِّحْيَةِ، يَجِبُ رُبُعُ قِيمَةِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ، وَقَوْلُهُ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ إشَارَةً إلَى الْقَصِّ، وَهُوَ السُّنَّةُ فِي الشَّارِبِ لَا الْحَلْقُ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ: أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ الْحَلْقُ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ الْقَصُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَبَعُ اللِّحْيَةِ، وَالسُّنَّةُ فِي اللِّحْيَةِ الْقَصُّ لَا الْحَلْقُ، كَذَا فِي الشَّارِبِ؛ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ يَشِينُهُ وَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ سُنَّةً فِي اللِّحْيَةِ، بَلْ كَانَ بِدْعَةً، فَكَذَا فِي الشَّارِبِ.
وَلَوْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ فَعَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ بِالِارْتِفَاقِ بِحَلْقِ شَعْرِهِ، فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ.
وَلَوْ نَتَفَ مِنْ أَحَدِ الْإِبْطَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ نَتَفَ الْإِبْطَيْنِ جَمِيعًا تَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ، وَالْحَاظِرُ وَاحِدٌ، وَالْجِهَةُ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ فَتَكْفِيهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَلَوْ نَتَفَ مِنْ أَحَدِ الْإِبْطَيْنِ أَكْثَرَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَدَنِ لَا يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ، بِخِلَافِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالرَّقَبَةِ وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْإِبْطِ النَّتْفَ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ النَّتْفُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحَلْقُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ.
وَلَوْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: فِيهِ صَدَقَةٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ: مَوْضِعَ الْحِجَامَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْحَلْقِ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ دَمٌ كَحَلْقِ الشَّارِبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ لَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِحَلْقِهِ، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِقُ لِلْحِجَامَةِ لَا لِنَفْسِهِ، وَالْحِجَامَةُ لَا تُوجِبُ الدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَكَذَا مَا يَفْعَلُ لَهَا؛ وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الشَّعْرِ قَلِيلٌ فَأَشْبَهَ الصَّدْرَ وَالسَّاعِدَ وَالسَّاقَ، وَلَا يَجِبُ بِحَلْقِهَا دَمٌ بَلْ صَدَقَةٌ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِاسْتِفْرَاغِ الْمَادَّةِ الدَّمَوِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يُحْلَقُ تَبَعًا لِلرَّأْسِ وَلَا لِلرَّقَبَةِ فَأَشْبَهَ حَلْقَ الْإِبْطِ وَالْعَانَةِ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالْحَلْقِ: الْعَمْدُ، وَالسَّهْوُ، وَالطَّوْعُ، وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْمُفْرِدُ، وَالْقَارِنُ غَيْرَ أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا قَلْمُ الظُّفْرِ فَنَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، رَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى قَضَاءَ التَّفَثِ عَلَى الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}، فَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ؛ وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، فَإِنْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَتَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ.
وَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: إذَا قَلَمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَظَافِيرَ مِنْ الْيَدِ أَكْثَرُهَا، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ، وَلِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ: أَنَّ قَلْمَ مَا دُونَ الْيَدِ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَنَقُولُ: إنَّ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ كُلِّ الْأَطْرَافِ فِي وُجُوبِ الدَّمِ، وَمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ لَا يَقُومُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي الرَّأْسِ أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ الرُّبُعُ فِيهِ مَقَامَ الْكُلِّ، لَا يُقَامُ أَكْثَرُ الرُّبُعِ مَقَامَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ أَكْثَرُ مَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ مَقَامَهُ؛ لَأُقِيمَ أَكْثَرُ أَكْثَرِهِ مَقَامَهُ فَيُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ التَّقْدِيرِ أَصْلًا وَرَأْسًا.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُتَفَرِّقَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ دَمٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَمَ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةَ أَظَافِيرَ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، إلَّا إذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الطَّعَامِ دَمًا فَيُنْقِصَ مِنْهُ مَا شَاءَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ دَمٌ، فَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ عَدَدَ الْخَمْسَةِ لَا غَيْرُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ التَّفَرُّقَ وَالِاجْتِمَاعَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَا مَعَ عَدَدِ الْخَمْسَةِ صِفَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَحِلٍّ وَاحِدٍ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ قَلْمَ أَظَافِيرِ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا أَوْجَبَ الدَّمَ لِكَوْنِهَا رُبُعَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ الْمُجْتَمِعُ وَالْمُتَفَرِّقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْأَرْشِ بِأَنْ قَطَعَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ فَكَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْقَلْمِ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْنٌ وَيَصِيرُ مُثْلَةً، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَةَ الطَّعَامِ دَمًا يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّا إنَّمَا لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الدَّمَ لِعَدَمِ تَنَاهِي الْجِنَايَةِ لِعَدَمِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ الدَّمِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّمَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ، ثُمَّ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدِهِ الْأُخْرَى، أَوْ رِجْلِهِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ لِمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَحَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ، وَطَيَّبَ عُضْوًا وَاحِدًا أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ جِنْسٍ دَمًا عَلَى حِدَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَجْمَعُوا فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَامَعَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَأَكَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَشَرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُ إنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ جَعَلَا اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاتِّحَادِهِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَطَعَ أَظَافِيرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِقَلْمِ أَظَافِيرِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ لِحُصُولِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فَتَتَكَامَلُ الْكَفَّارَةُ، وَقَلْمُ أَظَافِيرِ كُلِّ عُضْوٍ ارْتِفَاقٌ عَلَى حِدَةٍ، فَيَسْتَدْعِي كَفَّارَةً عَلَى حِدَةٍ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ حَظَرَهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ بِجِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمَةٍ، فَلَا يُوجِبُ إلَّا دَمًا وَاحِدًا، كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ أَنَّهُ إذَا حَلَقَ الرُّبُعَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ.
وَلَوْ حَلَقَ الْكُلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ انْهَتَكَ حُرْمَتُهُ بِقَلْمِ أَظَافِيرِ الْعُضْوِ الْأَوَّلِ، وَهَتْكُ الْمَهْتُوكِ لَا يُتَصَوَّرُ، فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَلِهَذَا لَا يَجِبُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِالْإِفْطَارِ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ جَبْرًا لَهَا، وَقَدْ انْهَتَكَ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ هَتْكًا بِالْإِفْسَادِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ انْجَبَرَ الْهَتْكُ بِالْكَفَّارَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَعَادَتْ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا هَتَكَهَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى جَبْرًا لَهَا كَمَا فِي كَفَّارَةِ رَمَضَانَ، وَلَهُمَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَالْإِحْرَامُ قَائِمٌ فَكَانَ كُلُّ فِعْلٍ جِنَايَةً عَلَى حِدَةٍ عَلَى الْإِحْرَامِ فَيَسْتَدْعِي كَفَّارَةً عَلَى حِدَةٍ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ الْجِنَايَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ جَامِعًا لِلْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ أَعْطَى لِكُلِّ جِنَايَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا، فَيُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بَلْ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ.
وَحُرْمَةُ الشَّهْرِ وَاحِدَةٌ لَا تَتَجَزَّأُ، وَقَدْ انْهَتَكَتْ حُرْمَتُهُ بِالْإِفْطَارِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُحْتَمَلُ الْهَتْكُ ثَانِيًا.
وَلَوْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ لِأَذًى فِي كَفِّهِ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إذَا فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ عَنْ ضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ فَكَفَّارَتُهُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ فَانْقَطَعَتْ مِنْهُ شَظِيَّةٌ فَقَلَعَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهَا كَالزَّائِدَةِ؛ وَلِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ النَّمَاءِ فَأَشْبَهَتْ شَجَرَ الْحَرَمِ إذَا يَبِسَ فَقَطَعَهُ إنْسَانٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ قَلَمَ الْمُحْرِمُ أَظَافِيرَ حَلَالٍ أَوْ مُحْرِمٍ أَوْ قَلَمَ الْحَلَالُ أَظَافِيرَ مُحْرِمٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَلْقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالذِّكْرُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِالْقَلْمِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ، إلَّا أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ ضِعْفَ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.